فصل: تفسير الآيات رقم (6- 11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإِسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم‏.‏

وهو إبطال بطريق القول بالموجَب في الجدل، أي إذا سلمنا أنكم مُوصَوْن بالتمسك بما أنتم عليه لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة، فليس في الإِسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم لأن كتابكم يأمر بما أمر به القرآن، وهو عبادة الله وحده دون إشراك، وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به، فذلك دين الإِسلام وذلك ما أمرتم به في دينكم‏.‏

فلك أن تجعل الواو عاطفة على جملة‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏ الخ‏.‏

ولك أن تجعل الواو للحال فتكون الجملة حالاً من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏حتى تأتيهم البينة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏ والمعنى والحال أن البينة قد أتتهم إذ جاء الإِسلام بما صدَّق قول الله تعالى لموسى عليه السلام‏:‏ «أقيم لهم نبيئاً من وسط إخوتهم وأجعل كلامي في فمه»، وقول عيسى عليه السلام‏:‏ «فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم»‏.‏

والتعبير بالفعل المسند للمجهول مفيد معنيين، أي ما أمروا في كتابهم إلا بما جاء به الإِسلام‏.‏ فالمعنى‏:‏ وما أمروا في التوراة والإِنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره‏.‏ فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام، وأمرت بالصلاة، وأمرت بالزكاة أمراً مؤكداً مكرراً‏.‏ وتلك هي أصول دين الإِسلام قبل أن يفرض صَوم رمضان والحج، والإِنجيل لم يخالف التوراة أو المعنى وما أمروا في الإِسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم، فلا معذرة لهم في الإِعراض عن الإِسلام على كلا التقديرين‏.‏

ونائب فاعل ‏{‏أمروا‏}‏ محذوف للعموم، أي ما أمروا بشيء إلا بأن يعبدوا الله‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليعبدوا اللَّه‏}‏ هي اللام التي تكثر زيادتها بعد فعل الإِرادة وفعل الأمر وتقدم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد اللَّه ليبين لكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏26‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأمرنا لنسلم لرب العالمين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏71‏)‏، وسماها بعض النحاة لام ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏

والإخلاص‏:‏ التصفية والإِنقاء، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره‏.‏

والدين‏:‏ الطاعة قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل اللَّه أعبد مخلصاً له ديني‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وحنفاء‏:‏ جمع حنيف، وهو لقب للذي يؤمن بالله وحده دون شريك قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏

وهذا الوصف تأكيد لمعنى‏:‏ ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ مع التذكير بأن ذلك هو دين إبراهيم عليه السلام الذي ملئت التوراة بتمجيده واتباع هديه‏.‏

وإقامة الصلاة من أصول شريعة التوراة كلَّ صباح ومساء‏.‏

وإيتاء الزكاة‏:‏ مفروض في التوراة فرضاً مؤكداً‏.‏

واسم الإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وذلك دين القيمة‏}‏ متوجِّهٌ إلى ما بعد حرف الاستثناء فإنه مقترن باللام المسماة ‏(‏لام أنْ‏)‏ المصدرية فهو في تأويل مفرد، أي إلا بعبادة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أي والمذكورُ دين القيمة‏.‏

و ‏{‏دين القيمة‏}‏ يجوز أن تكون إضافته على بابها فتكون ‏{‏القيمة‏}‏ مراداً به غير المراد بدين مما هو مؤنث اللفظ مما يضاف إليه دين أي دين الأمة القيّمة أو دين الكُتُب القَيمة‏.‏ ويرجّح هذا التقدير أن دليل المقدَّر موجود في اللفظ قبله‏.‏ وهذا إلزام لهم بأحقية الإِسلام وأنه الدين القيم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30 31‏]‏‏.‏

ويجوز أن تكون الإِضافة صورية من إضافة الموصوف إلى الصفة وهي كثيرة الاستعمال، وأصله الدين القيم، فأنث الوصف على تأويل دين بملة أو شريعة، أو على أن التاء للمبالغة في الوصف مثل تاء علاّمة والمآل واحد، وعلى كلا التقديرين فالمراد بدين القيمة دين الإِسلام‏.‏

والقيمة‏:‏ الشديدة الاستقامة وقد تقدم آنفاً‏.‏

فالمعنى‏:‏ وذلك المذكور هو دين أهل الحق من الأنبياء وصالحي الأمم وهو عين ما جاء به الإِسلام قال تعالى في إبراهيم‏:‏ ‏{‏ولكن كان حنيفاً مسلماً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏ وقال عنه وعن إسماعيل‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وحكى عنه وعن يعقوب قولهما‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ وقال سليمان‏:‏ ‏{‏وكنا مسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وقد مضى القول في ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏132‏)‏‏.‏

والإِشارة بذلك إلى الذي أمروا به أي مجموع ما ذكر هو دين الإِسلام، أي هو الذي دعاهم إليه الإِسلام فحسبوه نقضاً لدينهم، فيكون مهيع الآية مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أَلاَّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا باللَّه وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 59‏]‏‏.‏

والمقصود إقامة الحجة على أهل الكتاب وعلى المشركين تبعاً لهم بأنهم أعرضوا عما هم يتطلبونه فإنهم جميعاً مقرّون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية، فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به وقلّ منهم من تهودوا أو تنصروا، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وأميَّة بن أبي الصَّلْت‏.‏

وخصّ الضمير ب«أهل الكتاب» لأن المشركين لم يؤمروا بذلك قبل الإِسلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 46‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معاً ثم خَصَّ أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإِبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها‏.‏ أعقبه بوعيد الفريقين جمعاً بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة‏.‏

فالجملة استئناف ابتدائي، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعاً لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة، ولأن معظم الرد كان موجهاً إلى أحوالهم من قوله‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏دين القيمة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4، 5‏]‏، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ بيانية مثل التي في قوله‏:‏ ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة، فإن الظرفية التي اقتضتها ‏{‏في‏}‏ تفيد أنهم غير خارجين منها، وتأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأساً‏.‏

والإِخبارُ عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول‏:‏ زيد في نعمة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أولئك هم شر البريئة‏}‏ كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي‏.‏

والبريئة‏:‏ فعيلة من بَرأ الله الخلق، أي صورهم‏.‏

ومعنى كونهم ‏{‏شر البريئة‏}‏ أنهم أشد الناس شراً، ف ‏{‏شر‏}‏ هنا أفعل تفضيل أصله أشر مثل خير الذي هو بمعنى أخير، فإضافة ‏{‏شر‏}‏ إلى ‏{‏البريئة‏}‏ على نية ‏{‏مِن‏}‏ التفضيلية‏.‏

وإنما كانوا كذلك لأنهم ضلوا بعد تلبسهم بأسباب الهدى، فأما أهل الكتاب فلأن لديهم كتاباً فيه هدى ونور فعدلوا عنه، وأما المشركون فلأنهم كانوا على الحنيفية فأدخلوا فيها عبادة الأصنام ثم إنهم أصرّوا على دينهم بعدما شاهدوا من دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به القرآن من الإِعجاز والإِنباء بما في كتب أهل الكتاب، وذلك مما لم يشاركهم فيه غيرهم فقد اجتنوا لأنفسهم الشر من حيث كانوا أهلاً لنوال الخير فحسرتهم على أنفسهم يوم القيامة أشد من حسرة من عداهم فكان الفريقان شراً من الوثنيين والزنادقة في استحقاق العقاب لا فيما يرجى منهم من الاقتراب‏.‏

وأقحم اسم الإِشارة بين اسم ‏{‏إنَّ‏}‏ وخبرها للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإِشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإِشارة كما في قوله‏:‏

‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وتوسيط ضمير الفصل لإِفادة اختصاصهم بكونهم شر البريئة لا يشاركهم في ذلك غيرهم من فرق أهل الكفر لما علمت آنفاً‏.‏ ولا يرد أن الشياطين أشد شراً منهم لما علمت أن اسم البريئة اعتبر إطلاقه على البشر‏.‏

و ‏{‏البريئة‏}‏ قرأه نافع وحده وابنُ ذكوان عن ابن عامر بهمز بعد الياء فعيلة من برأ اللَّهُ، إذا خلق‏.‏

وقرأه بقية العشرة بياء تحتية مشددة دون همز على تسهيل الهمزة بعد الكسرة ياء وإدغام الياء الأولى في الياء الثانية تخفيفاً‏.‏

وإثبات الهمزة لغة أهل الحجاز، والتخفيف لغة بقية العرب، كما تركوا الهمز في الدَّرِيَّة والنبيّ‏.‏ قال سيبويه‏:‏ ليس أحد من العرب إلا ويقول‏:‏ تنبأ مسيلمة بالهمز غير أنهم تركوا الهمز في النبيّ كما تركوه في‏:‏ الدَّرِيَّة والبَرِيَّة إلا أهل مكة فإنهم يهمزونها ويخالفون العرب في ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏البرية * إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية‏}‏ ‏{‏البرية * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الانهار‏}‏‏.‏

قوبل حال الكفرة من أهل الكتاب وحالُ المشركين بحال الذين آمنوا بعد أن أشِير إليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وذلك دين القيمة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏، استيعاباً لأحوال الفِرق في الدنيا والآخرة وجرياً على عادة القرآن في تعقيب نذارة المنذَرين ببشارة المطمئنين وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم، وقدم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نظم الكلام المتقدم في ضدهم ليكون ذكر وعدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم فإن الله شكور‏.‏

والجملة استئناف بياني ناشئ عن تكرر ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلاً عن حالهم لعل تأخر إيمانهم إلى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يَجعلهم في انحطاط درجةٍ، فجاءت هذه الآية مبينة أن من آمن منهم هو معدود في خير البريئة‏.‏

والقول في اسم الإِشارة، وضمير الفصل والقصر وهمز البريئة كالقول في نظيره المتقدم‏.‏

واسم الإِشارة والجملة المخبر بها عنه جميعها خبر عن اسم ‏{‏إن‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏جزاؤهم عند ربهم جنات عدن‏}‏ إلى آخرها مبيِّنة لجملة‏:‏ ‏{‏أولئك هم خير البريئة‏}‏‏.‏

و ‏{‏عند ربهم‏}‏ ظرف وقع اعتراضاً بين ‏{‏جزاؤهم‏}‏ وبين ‏{‏جنات عدن‏}‏ للتنويه بعِظَم الجزاء بأنه مدَّخر لهم عند ربهم تكرمةً لهم لما في ‏{‏عند‏}‏ من الإِيماء إلى الحظوة والعناية، وما في لفظ ربهم من الإِيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه ‏{‏عندَ‏}‏، وما يناسب شأن من يَرُب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان‏.‏

وإضافة‏:‏ ‏{‏جنات‏}‏ إلى ‏{‏عدن‏}‏ لإِفادة أنها مسكنهم لأن العَدْن الإِقامة، أي ليس جزاؤهم تنزهاً في الجنات بل أقوى من ذلك بالإِقامة فيها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ بشارة بأنها مسكنهم الخالد‏.‏

ووصف الجنات ب ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ لبيان منتهى حسنها‏.‏

وجَرْيُ النهر مستعار لانتقال السيْل تشبيهاً لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي‏.‏

والنهر‏:‏ أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه‏.‏ وإسناد الجري إلى الأنهار توسع في الكلام لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر‏.‏

وجعل جزاء الجماعة جمعَ الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع، أي لكل واحد جنة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ وقولك‏:‏ ركب القوم دوابَّهم، ويجوز أن يكون لكل أحد جنات متعددة والفضل لا ينحصر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏رضي الله عنهم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏خالدين‏}‏، أي خالدين خلوداً مقارناً لرضى الله عنهم، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضى الله عنهم، وذلك أعظم مراتب الكرامة قال تعالى‏:‏

‏{‏ورضوان من اللَّه أكبر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏ ورِضَى الله تعلق إحسانه وإكرامه لعبده‏.‏

وأما الرضى في قوله‏:‏ ‏{‏ورضوا عنه‏}‏ فهو كناية عن كونهم نالهم من إحسان الله ما لا مطلب لهم فوقه كقول أبي بكر في حديث الغار‏:‏ «فشَرب حتى رضيتَ»، وقول مخرمة حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قَباءً‏:‏ «رَضِيَ مخرمة»‏.‏ وزاده حُسْن وقع هنا ما فيه من المشاكلة‏.‏

‏{‏عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ‏}‏‏.‏

تذييل آت على ما تقدم من الوعد للذين آمنوا والوعيد للذين كفروا بُيّن به سبب العطاء وسبب الحرمان وهو خشية الله تعالى بمنطوق الصلة ومفهومها‏.‏

والإِشارة إلى الجزاء المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏جزاؤهم عند ربهم‏}‏ يعني أن السبب الذي أنالهم ذلك الجزاء هو خشيتهم الله فإنهم لما خشوا الله توقعوا غضبه إذا لم يصغوا إلى من يقول لهم‏:‏ إني رسول الله إليكم، فأقبلوا على النظر في دلائل صدق الرسول فاهتدوا وآمنوا، وأما الذين آثروا حظوظ الدنيا فأعرضوا عن دعوة رسول من عند الله ولم يتوقعوا غضب مرسله فبقوا في ضلالهم‏.‏

فما صدْقُ‏:‏ «من خشي ربه» هم المؤمنون، واللام للملك، أي ذلك الجزاء للمؤمنين الذين خشوا ربهم فإذا كان ذلك ملكاً لهم لم يكن شيء منه ملكاً لغيرهم فأفاد حرمان الكفرة المتقدم ذكرهم وتم التذييل‏.‏

وفي ذكر الرب هنا دون أن يقال‏:‏ ذلك لمن خشي الله، تعريض بأن الكفار لم يرعوا حق الربوبية إذ لم يخشوا ربهم فهم عبيد سوء‏.‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

افتتاح الكلام بظرف الزمان مع إطالة الجمل المضاف إليها الظرف تشويق إلى متعلَّق الظَّرْف إذ المقصود ليس توقيت صدور الناس أشتاتاً ليُرَوا أعمالهم بل الإِخبارَ عن وقوع ذلك وهو البعث، ثم الجزاء، وفي ذلك تنزيل وقوع البعث منزلة الشيء المحقق المفروغ منه بحيث لا يهم الناس إلا معرفة وقته وأشراطِهِ فيكون التوقيت كناية عن تحقيق وقوع الموقت‏.‏

ومعنى ‏{‏زلزلت‏}‏‏:‏ حُركت تحريكاً شديداً حتى يخيل للناس أنها خرجت من حيزها لأن فعل زلزل مأخوذ من الزّلل وهو زَلَق الرِّجلين، فلما عَنَوا شدة الزلل ضاعفوا الفعل للدلالة بالتضعيف على شدة الفعل كما قالوا‏:‏ كَبْكَبه، أي كَبَّه ولَمْلَم بالمكان من اللّمّ‏.‏

والزلزال‏:‏ بكسر الزاي الأولى مصدر زَلزل، وأما الزَّلزال بفتح الزاي فهو اسم مصدر كالوسَواس والقَلْقَال، وتقدم الكلام على الزلزال في سورة الحج‏.‏

وإنما بُني فعل ‏{‏زلزلت‏}‏ بصيغة النائب عن الفاعل لأنه معلوم فاعله وهو الله تعالى‏.‏

وانتصب ‏{‏زلزالها‏}‏ على المفعول المطلق المؤكِّد لفعله إشارة إلى هول ذلك الزلزال فالمعنى‏:‏ إذا زلزلت الأرض زلزالاً‏.‏

وأضيف ‏{‏زلزالها‏}‏ إلى ضمير الأرض لإفادة تمكّنه منها وتكرره حتى كأنه عرف بنسبته إليها لكثرة اتصاله بها كقول النابغة‏:‏

أسائِلَتي سَفَاهَتَها وجَهْلاً *** على الهجران أختُ بني شهاب

أي سفاهة لها، أي هي معروفة بها، وقول أبي خالد القَناني‏:‏

والله أسماكَ سُمًى مباركاً *** آثرَك الله به إيثَاركا

يريد إيثاراً عُرفْتَ به واختصصتَ به‏.‏ وفي كتب السيرة أن من كلام خَطر بن مالك الكاهن يذكر شيطانه حين رُجِم «بَلْبَلَه بَلْبَالُه» أي بلبال متمكن منه‏.‏ وإعادة لفظ الأرض في قوله‏:‏ ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لقصد التهويل‏.‏

والأثقال‏:‏ جمع ثِقْل بكسر المثلثة وسكون القاف وهو المتاع الثقيل، ويطلق على المتاع النفيس‏.‏

وإخراج الأرض أثقالها ناشئ عن انشقاق سطحها فتقذف ما فيها من معادن ومياه وصخر‏.‏

وذلك من تكرر الانفجارات الناشئة عن اضطراب داخل طبقاتها وانقلاب أعاليها أسافل والعكس‏.‏

والتعريف في ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي وقال الناس ما لها، أي الناس الذين هم أحياء ففزعوا وقال بعضهم لبعض، أو قال كل أحد في نفسه حتى استوى في ذلك الجَبان والشجاع، والطائش والحكيم، لأنه زلزال تجاوز الحدّ الذي يصبر على مثله الصَّبور‏.‏

وقول‏:‏ ‏{‏ما لها‏}‏ استفهام عن الشيء الذي ثبت للأرض ولزمها لأن اللام تفيد الاختصاص، أي ما للأرض في هذا الزلزال، أو ما لها زُلزلت هذا الزلزال، أي ماذا ستكون عاقبته‏.‏ نزلت الأرض منزلة قاصد مريد يتساءل الناس عن قصده من فعله حيث لم يتبين غرضه منه، وإنما يقع مثل هذا الاستفهام غالباً مردفاً بما يتعلق بالاستقرار الذي في الخبر مثل أن يقال‏:‏ ما لَه يفعل كَذا، أو ما له في فعل كذا، أو ما له وفلاناً، أي معه، فلذلك وجب أن يكون هنا مقدَّر، أي ما لها زلزلت، أو ما لها في هذا الزلزال، أو ما لها وإخراج أثقالها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏ الخ جواب ‏{‏إذا‏}‏ باعتبار ما أبدل منها من قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ يصدر الناس‏}‏ فيومئذ بدل من ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏‏.‏

واليوم يطلق على النهار مع ليلهِ فيكون الزلزال نهاراً وتتبَعه حوادث في الليل مع انكدار النجوم وانتثارها وقد يراد باليوم مطلق الزمان‏.‏

و ‏{‏تحدث أخبارها‏}‏ هو العامل في ‏{‏يومئذ‏}‏ وفي البدل، والتقدير يوم إذْ تزلْزلُ الأرض وتُخرج أثقالها ويقول الناس‏:‏ ما لَهَا تحدّث أخبارها الخ‏.‏

و ‏{‏أخبارها‏}‏ مفعول ثاننٍ لفعل ‏{‏تحدث‏}‏ لأنه مما ألحق بظن لإِفادة الخَبَر عِلماً، وحذف مفعوله الأول لظهوره، أي تحدث الإِنسان لأن الغرض من الكلام هو إخبارها لما فيه من التهويل‏.‏

وضمير ‏{‏تحدث‏}‏ عائد إلى ‏{‏الأرض‏}‏‏.‏

والتحديث حقيقته‏:‏ أن يصدر كلام بخبر عن حَدث‏.‏ وورد في حديث الترمذي عن أبي هريرة قال‏:‏ «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏ قال‏:‏ أتدرون ما أخبارها‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم قال‏:‏ فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول‏:‏ عَمل كذا وكذا فهذه أخبارها» اه‏.‏

وجُمع ‏{‏أخبارها‏}‏ باعتبار تعدد دلالتها على عدد القائلين ‏{‏ما لها‏}‏ وإنما هو خبر واحد وهو المبيَّن بقوله‏:‏ ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏‏.‏

وانتصب ‏{‏أخبارها‏}‏ على نزع الخافض وهو باء تعدية فعل ‏{‏تحدث‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏ يجوز أن يتعلق بفعل ‏{‏تحدث‏}‏ والباء للسببيَّة، أي تحدث أخبارها بسبب أن الله أمرها أن تحدث أخبارها‏.‏

ويجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏أخبارها‏}‏ وأظهرت الباء في البدل لتوكيد تعدية فعل ‏{‏تحدث‏}‏ إليه، وعلى كلا الوجهين قد أجملت أخبارها وبينها الحديث السابق‏.‏

وأطلق الوحي على أمر التكوين، أي أوجَدَ فيها أسباب إخراج أثقالها فكأنه أسرَّ إليها بكلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏ الآيات‏.‏ «

وعُدي فعل ‏{‏أوحى‏}‏ باللام لتضمين ‏{‏أوحى‏}‏ معنى قال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏، وإلا فإن حق ‏{‏أوحى‏}‏ أن يتعدى بحرف ‏(‏إلى‏)‏‏.‏

والقول المضمَّن هو قول التكوين قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وإنما عُدل عن فعل‏:‏ قال لها إلى فعل ‏{‏أوحى لها‏}‏ لأنه حكاية عن تكوين لا عن قول لفظي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ يصدر الناس أشتاتاً‏}‏ بدل من جملة‏:‏ ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏ والجواب هو فعل ‏{‏يصدر الناس‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ يتعلق به، وقُدم على متعلقه للاهتمام‏.‏ وهذا الجواب هو المقصود من الكلام لأن الكلام مسوق لإِثبات الحشر والتذكير به والتحذير من أهواله فإنه عند حصوله يعلم الناس أن الزلزال كان إنذاراً بهذا الحشر‏.‏

وحقيقة ‏{‏يصدر الناس‏}‏ الخروج من محل اجتماعهم، يقال‏:‏ صدر عن المكان، إذا تركه وخرج منه صُدوراً وصَدَراً بالتحريك‏.‏ ومنه الصَدَر عن الماء بعد الورد، فأطلق هنا فعل ‏{‏يصدر‏}‏ على خروج الناس إلى الحشر جماعات، أو انصرافهم من المحشر إلى مآويهم من الجنة أو النار، تشبيهاً بانصراف الناس عن الماء بعد الورد‏.‏

وأشتات‏:‏ جمع شَتّ بفتح الشين وتشديد الفوقية وهو المتفرق، والمراد‏:‏ يصدرون متفرقين جماعات كل إلى جهة بحسب أعمالهم وما عُيّن لهم من منازلهم‏.‏

وأشير إلى أن تفرقهم على حسب تناسب كل جماعة في أعمالها من مراتب الخير ومنازل الشر بقوله‏:‏ ‏{‏ليروا أعمالهم‏}‏، أي يصدرون لأجل تلقي جزاء الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا فيقال لكل جماعة‏:‏ انظروا أعمالكم، أو انظروا مآلكم‏.‏

وبُني فعل ‏{‏ليروا‏}‏ إلى النائب لأن المقصود رؤيتهم أعمالهم لا تعيينُ مَن يريهم إياها‏.‏ وقد أجمع القراء على ضم التحتية‏.‏

فالرؤية مستعملة في رؤية البصر والمرئي هو منازل الجزاء، ويجوز أن تكون الرؤية مستعملة في العلم بجزاء الأعمال فإن الأعمال لا تُرى ولكن يظهر لأهلها جزاؤها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏ليروا أعمالهم‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 6‏]‏ تفريع الفذلكة، انتقالاً للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء، والتفريعُ قاض بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتاً‏.‏

والمثقال‏:‏ ما يعرف به ثِقَل الشيء، وهو ما يُقَدَّر به الوزن وهو كميزاننٍ زِنةً ومعْنًى‏.‏

والذّرة‏:‏ النملة الصغيرة في ابتداء حياتها‏.‏

و ‏{‏مثقال ذرة‏}‏ مثَل في أقل القلة وذلك للمؤمنين ظاهر وبالنسبة إلى الكافرين فالمقصود ما عملوا من شر، وأما بالنسبة إلى أعمالهم من الخير فهي كالعدم فلا توصف بخير عند الله لأن عمل الخير مشروط بالإِيمان قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وإنما أعيد قوله‏:‏ ‏{‏ومن يعمل‏}‏ دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإِطناب‏.‏

وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالجامعة الفاذة ففي «الموطأ» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الخيلُ لثلاثة ‏"‏ الحديث‏.‏ فسُئل عن الحُمُر فقال‏:‏ لم يُنْزَل عَليَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏‏.‏ وعن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ هذه أحكم آية في القرآن، وقال الحسن‏:‏ قَدِم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئ النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صَعصعة‏:‏ حسبي فقد انتهت الموعظة لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ «لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإِنجيل والزبور والصحف‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏.‏

وإذ قد كان الكلام مسوقاً للترغيب والترهيب معاً أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويهاً بأهل الخير‏.‏

وفي الكشاف‏}‏‏:‏ يحكى أن أعرابياً أخَّر خيراً يَرَه فقيل قدّمت وأخَّرت فقال‏:‏

خُذا بطن هَرشَى أو قَفَاها فإنه *** كلا جانبيْ هَرشَى لهن طريق ا ه

وقد غفل هذا الأعرابي عن بلاغة الآية المقتضية التنويه بأهل الخير‏.‏

روى الواحدي عن مقاتل‏:‏ أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما‏.‏

ومن أجل هذه الرواية قال جمع‏:‏ إن السورة مدنية‏.‏ ولو صحّ هذا الخبر لما كان مقتضياً أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهداً يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أقسم الله ب ‏{‏العاديات‏}‏ جمع العادية، وهو اسم فاعل من العَدْو وهو السيْر السريع يطلق على سير الخيل والإِبل خاصة‏.‏

وقد يوصف به سير الإِنسان وأحسب أنه على التشبيه بالخيل ومنه عَدَّاؤو العرب، وهم أربعة‏:‏ السُّلَيْك بن السُّلَكَة، والشَّنْفَرى، وتَأَبَّطَ شَرّاً، وعَمْرو بن أمية الضّمْري‏.‏ يضرب بهم المثل في العَدْو‏.‏

وتأنيث هذا الوصف هنا لأنه من صفات ما لا يعقل‏.‏

والضَّبح‏:‏ اضطراب النفَس المتردد في الحنجرة دون أن يخرج من الفم وهو من أصوات الخيل والسباع‏.‏ وعن عطاء‏:‏ سمعت ابن عباس يصف الضبح أحْ أحْ‏.‏

وعن ابن عباس ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلْب والثعلب، وهذا قول أهل اللغة واقتصر عليه في «القاموس»‏.‏ روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس قال‏:‏ «بينما أنا جالس في الحِجْر جاءني رجل فسألني عن ‏{‏العاديات ضبحاً‏}‏ فقلت له‏:‏ الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويُورون نارهم، فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سِقاية زمزم فسأله عنها، فقال‏:‏ سألتَ عنها أحداً قبلي‏؟‏ قال‏:‏ نعم، سألتُ ابن عباس فقال‏:‏ الخيلُ تغزو في سبيل الله، قال‏:‏ اذهب فادعُه لي، فلما وقفتُ عند رأسه‏.‏ قال‏:‏ تُفتي الناس بما لا علم لك به واللَّهِ لَكانتْ أول غزوة في الإِسلام لبدر وما كان معَنا إلا فَرسَان فرسٌ للزبير وفرس للمِقداد فكيف تكون العادياتتِ ضَبحا، إنما العاديات ضَبحا الإِبل من عَرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ‏(‏يعني بذلك أن السورة مكية قبل ابتداء الغزو الذي أوله غزوة بدر‏)‏ قال ابن عباس‏:‏ فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي»‏.‏

وليس في قول علي رضي الله عنه تصريح بأنها مكية ولا مدنية وبمثل ما قال علي قَال ابن مسعود وإبراهيمُ ومجاهد وعُبيد بن عمير‏.‏

والضبح لا يطلق على صوت الإِبل في قول أهل اللغة‏.‏ فإذا حمل ‏{‏العاديات‏}‏ على أنها الإِبل، فقال المبرد وبعض أهل اللغة‏:‏ من جعلها للإِبل جعل ‏{‏ضبحا‏}‏ بمعنى ضَبعا، يقال‏:‏ ضبحت الناقة في سيرها وضبَعت، إذا مدت ضبعيها في السير‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ضبحت الخيل وضبعت، إذا عَدَت وهو أن يمد الفرس ضبعيه إذا عدا، أي فالضبح لغة في الضبع وهو من قلب العين حاء‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «وليس بثبت»‏.‏ ولكن صاحب «القاموس» اعتمده‏.‏ وعلى تفسير ‏{‏العاديات‏}‏ بأنها الإِبل يكون الضبح استعير لصوت الإِبل، أي من شدة العدو قويت الأصوات المتردّدة في حناجرها حتى أشبهت ضبح الخيل أو أريد بالضبح الضبع على لغة الإِبدال‏.‏

وانتصب ‏{‏ضبحاً‏}‏ فيجوز أن يجعل حالاً من ‏{‏العاديات‏}‏ إذا أريد به الصوت الذي يتردد في جوفها حين العدو، أو يجعل مبيناً لنوع العدو إذا كان أصله‏:‏ ضبحا‏.‏

وعلى وجه أن المقسم به رواحل الحج فالقَسم بها لتعظيمها بما تُعين به على مناسك الحج‏.‏ واختير القسم بها لأن السامعين يوقنون أن ما يقسم عليه بها محقق، فهي معظمة عند الجميع من المشركين والمسلمين‏.‏

والموريات‏:‏ التي توري، أي توقد‏.‏

والقَدْح‏:‏ حكّ جسم على آخر ليقدح ناراً، يقال‏:‏ قدح فأورَى‏.‏ وانتصب ‏{‏قدحا‏}‏ على أنه مفعول مطلق مُؤكّد لعامله‏.‏ وكل من سنابك الخيل ومناسم الإِبل تقدح إذا صَكَّت الحجر الصَّوَّان ناراً تسمى نار الحُباحب، قال الشنفرى يشبِّه نفسه في العدو ببعير‏:‏

إذا الأمْعَز الصَّوَّان لاقَى مَناسمي *** تَطَايَر منه قَادح ومُفلَّل

وذلك كناية عن الإِمعان في العدو وشدة السرعة في السير‏.‏

ويجوز أن يراد قَدح النيرَان بالليل حين نزولهم لحاجتهم وطعامهم، وجُوز أن يكون ‏{‏الموريات قدحاً‏}‏ مستعار لإِثارة الحرب لأن الحرب تشبَّه بالنار‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللَّه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، فيكون ‏{‏قدحاً‏}‏ ترشيحاً لاستعارة ‏{‏الموريات‏}‏ ومنصوباً على المفعول المطلق ل ‏{‏الموريات‏}‏ وجُوز أن يكون ‏{‏قدحاً‏}‏ بمعنى استخراج المرق من القِدر في القداح لإِطعام الجيش أو الركْب، وهو مشتق من اسم القَدَح، وهو الصحفة فيكون ‏{‏قدحاً‏}‏ مصدراً منصوباً على المفعول لأجله‏.‏

والمغيرات‏:‏ اسم فاعل من أغار، والإِغارة تطلق على غزو الجيش داراً وهو أشهر إطلاقها فإسناد الإِغارة إلى ضمير ‏{‏العاديات‏}‏ مجاز عقلي فإن المغيرين راكبوها ولكن الخيل أو إبل الغزو أسباب للإِغارة ووسائل‏.‏

وتطلق الإِغارة على الاندفاع في السير‏.‏

و ‏{‏صبحاً‏}‏ ظرف زمان فإذا فسر «المغيرات» بخيل الغزاة فتقييد ذلك بوقت الصبح لأنهم كانوا إذا غزوا لا يغيرون على القوم إلا بعد الفجر ولذلك كان مُنذر الحَيِّ إذا أنذر قومه بمجيء العدوّ نادى‏:‏ يا صَبَاحاه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا نَزَل بساحتهم فساء صباح المنذرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 177‏]‏‏.‏

وإذا فسر «المغيرات» بالإِبل المسرعات في السير، فالمراد‏:‏ دفعها من مزدلفة إلى منى صباحَ يوم النحر وكانوا يدفعون بكرة عندما تُشرق الشمس على ثبير ومن أقوالهم في ذلك‏:‏ «أشْرِق ثَبير كيما نغير»‏.‏

«وأثَرنَ به نقعاً»‏:‏ أصعَدْن الغبار من الأرض من شدة عدْوِهن، والإِثارة‏:‏ الإِهاجة، والنقع‏:‏ الغبار‏.‏

والباء في ‏{‏به‏}‏ يجوز أن تكون سببية، والضمير المجرور عائد إلى العَدْوِ المأخوذ من ‏{‏العاديات‏}‏‏.‏ ويجوز كون الباء ظرفية والضمير عائداً إلى ‏{‏صبحاً‏}‏، أي أثرن في ذلك الوقت وهو وقت إغارتها‏.‏

ومعنى‏:‏ «وسَطْن»‏:‏ كُنَّ وسط الجمع، يقال‏:‏ وسط القومَ، إذا كان بينهم‏.‏

و ‏{‏جمعاً‏}‏ مفعول‏:‏ «وسَطْن» وهو اسم لجماعة الناس، أي صِرْن في وسط القوم المغزوون‏.‏ فأما بالنسبة إلى الإِبل فيتعين أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏جمعاً‏}‏ بمعنى المكان المسمى ‏{‏جمعاً‏}‏ وهو المزدلفة فيكون إشارة إلى حلول الإِبل في مزدلفة قبل أن تغير صبحاً منها إلى عرفة إذ ليس ثمة جماعة مستقرة في مكان تصل إليه هذه الرواحل‏.‏

ومن بديع النظم وإعجازه إيثار كلمات «العاديات وضبحاً والموريات وقدحا، والمغيرات وصبحاً، ووسطن وجمعاً» دون غيرها لأنها برشقاتها تتحمل أن يكون المقسم به خيل الغزو ورواحل الحج‏.‏

وعطفت هذه الأوصاف الثلاثة الأولى بالفاء لأن أسلوب العرب في عطف الصفات وعطف الأمكنة أن يكون بالفاء وهي للتعقيب، والأكثر أن تكون لتعقيب الحصول كما في هذه الآية، وكما في قول ابن زيَّابة‏:‏

يا لهفَ زيَّابةَ للحارِث الصَّ *** ابح فالغانم فالآيب

وقد يكون لمجرد تعقيب الذِّكر كما في سورة الصافات‏.‏

والفاء العاطفة لقوله‏:‏ ‏{‏فأثرن به نقعاً‏}‏ عاطفة على وصف «المغيرات»‏.‏ والمعطوف بها من آثار وصف المغيرات‏.‏ وليست عاطفة على صفة مستقلة مثل الصفات الثلاث التي قبلها لأن إثارة النقع وتوسط الجمع من آثار الإِغارة صُبحاً، وليسا مُقْسماً بهما أصالةً وإنما القَسم بالأوصاف الثلاثة الأولى‏.‏

فلذلك غُير الأسلوب في قوله‏:‏ ‏{‏فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً‏}‏ فجيء بهما فعلين ماضيين ولم يأتيا على نسق الأوصاف قبلهما بصيغة اسم الفاعل للإِشارة إلى أن الكلام انتقل من القَسَم إلى الحكاية عن حصول ما تَرتَّبَ على تلك الأوصاف الثلاثة ما قُصد منها من الظفَر بالمطلوب الذي لأجله كان العَدو والإِيراء والإِغارة عقبه وهي الحلُول بدار القوم الذين غزَوهم إذَا كان المراد ب ‏{‏العاديات‏}‏ الخيل، أو بلوغُ تمام الحج بالدفع عن عرفة إذا كان المراد ب ‏{‏العاديات‏}‏ رواحل الحجيج، فإن إثارة النقع يشعرون بها عند الوصول حين تقف الخيل والإِبل دفعة، فتثير أرجلها نقعاً شديداً فيما بينهما، وحينئذ تتوسطن الجمع من الناس‏.‏ وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏جمعاً‏}‏ اسم المزدلفة حيث المشعر الحرام‏.‏

ومناسبة القسم بهذه الموصوفات دون غيرها إن أريد رواحل الحجيج وهو الوجه الذي فسر به علي بن أبي طالب هو أن يصدّق المشركون بوقوع المقسم عليه لأن القسم بشعائر الحج لا يكون إلا باراً حيث هم لا يصدقون بأن القرآن كلام الله ويزعمونه قول النبي صلى الله عليه وسلم

وإن أريد ب ‏{‏العاديات‏}‏ وما عطف عليها خيل الغزاة، فالقسم بها لأجل التهويل والترويع لإِشعار المشركين بأنَّ غارة تترقبهم وهي غزوة بدر، مع تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم من التردد في مصير السرية التي بعث بها مع المُنذر بن عَمْرو إذا صحّ خبرها فيكون القسم بخصوص هذه الخيل إدماجاً للاطمئنان‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏ جواب القسم‏.‏

والكَنود‏:‏ وصف من أمثلة المبالغة من كَند ولغات العرب مختلفة في معناه فهو في لغة مضر وربيعةَ‏:‏ الكفور بالنعمة، وبلغة كنانة‏:‏ البخيل، وفي لغة كِندة وحضرموت‏:‏ العاصي‏.‏ والمعنى‏:‏ لشديد الكفران لله‏.‏

والتعريف في ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً، أي أن في طبع الإنسان الكُنود لربه، أي كفرانَ نعمته، وهذا عارض يعرض لكل إنسان على تفاوتتٍ فيه ولا يسلم منه إلا الأنبياء وكُمَّل أهل الصلاح لأنه عارض ينشأ عن إيثار المرء نفسه وهو أمر في الجبلة لا تدفعه إلا المراقبة النفسية وتذكّرُ حق غيره‏.‏

وبذلك قد يذهل أو ينسَى حق الله، والإِنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته، ويتوانى أو يغفل عن مقاومته لأنه يشتغل بإرضاء داعية نفسه والأنفس متفاوتة في تمكن هذا الخُلق منها، والعزائم متفاوتة في استطاعة مغالبته‏.‏

وهذا ما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد‏}‏ فلذلك كان الاستغراق عرفياً أو عامّاً مخصوصاً، فالإِنسان لا يخلو من أحوال مآلها إلى كفران النعمة، بالقول والقصد، أو بالفعل والغفلة، فالإِشراك كنود، والعِصيان كنود، وقِلة ملاحظة صَرف النعمة فيما أعطيت لأجله كنود، وهو متفاوت، فهذا خلق متأصل في الإِنسان فلذلك أيقظ الله له الناس ليَريضوا أنفسهم على أمانة هذا الخلق من نفوسهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان خلق هلوعاً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان من عجل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏ وقد تقدمت قريباً‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ تخصيص الإنسان هنا بالكافر فهو من العموم العرفي‏.‏

وروي عن أبي أمامة الباهلي بسند ضعيف قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكنود هو الذي يأكل وحْدَه ويمنع رفده ويضْرب عبده» وهو تفسير لأدنى معاني الكنود فإن أكله وحده، أي عدم إطعامه أحداً معه، أو عدم إطعامه المحاويج إغضاء عن بعض مراتب شكر النعمة، وكذلك منعه الرفد، ومثله‏:‏ ضربه عبده فإن فيه نسياناً لشكر الله الذي جعل العبد ملكاً له ولم يجعله ملكاً للعبد فيدل على أن ما هو أشد من ذلك أولى بوصف الكَنود‏.‏

وقيل التعريف في ‏{‏الإنسان‏}‏ للعهد، وأن المراد به الوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ قرطة بن عبد عمرِو بن نوفل القرشي‏.‏

واللام في ‏{‏لربه‏}‏ لام التقوية لأن ‏(‏كَنود‏)‏ وصف ليس أصيلاً في العمل، وإنما يتعلق بالمعمولات لمشابهته الفعل في الاشتقاق فيكثر أن يقترن مفعوله بلام التقوية، ومع تأخيره عن معموله‏.‏

وتقديم ‏{‏لربه‏}‏ لإِفادة الاهتمام بمتعلق هذا الكنود لتشنيع هذا الكنود بأنه كنود للرب الذي هو أحق الموجودات بالشكر وأعظم ذلك شرك المشركين، ولذلك أكد الكلام بلام الابتداء الداخلة على خبر ‏(‏إنَّ‏)‏ للتعجيب من هذا الخبر‏.‏

وتقديم ‏{‏لربه‏}‏ على عامله المقترن بلام الابتداء وهي من ذوات الصدر لأنهم يتوسعون في المجرورات والظروف، وابنُ هشام يرى أن لام الابتداء الواقعة في خبر ‏(‏إنَّ‏)‏ ليست بذات صدارة‏.‏

وضمير ‏{‏وإنه على ذلك لشهيد‏}‏ عائد إلى الإنسان على حسب الظاهر الذي يقتضيه انتساق الضمائر واتحاد المتحدث عنه وهو قول الجمهور‏.‏

والشهيد‏:‏ يطلق على الشاهد وهو الخبر بما يُصدَّق دعوى مدع، ويطلق على الحاضر ومنه جاء إطلاقه على العالم الذي لا يفوته المعلوم، ويطلق على المقر لأنه شهد على نفسه‏.‏

والشهيد هنا‏:‏ إما بمعنى المقر كما في «أشْهد أن لا إله إلا الله»‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الإنسان مقر بكنوده لربه من حيث لا يقصد الإِقرار، وذلك في فلتات الأقواللِ مثل قول المشركين في أصنامهم‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فهذا قول يلزمه اعترافهم بأنهم عبدوا ما لا يستحق أن يُعبد وأشركوا في العبادة مع المستحق للانفراد بها، أليس هذا كنوداً لربهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، وفي فلتات الأفعال كما يعرض للمسلم في المعاصي‏.‏

والمقصود من هذه الجملة تفظيع كنود الإنسان بأنه معلوم لصاحبه بأدنى تأمل في أقواله وأفعاله‏.‏ وعلى هذا فحرف ‏{‏على‏}‏ متعلق ب«شهيد» واسم الإِشارة مُشار به إلى الكُنود المأخوذ من صفة «كَنود»‏.‏

ويجوز أن يكون «شهيد» بمعنى ‏(‏عليم‏)‏ كقول الحارث بن حِلَّزة في عمرو بن هند‏:‏

وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ *** م الخيَارَيْننِ والبَلاء بَلاء

ومتعلق «شهيد» محذوفاً دلّ عليه المقام، أي عليم بأن الله ربه، أي بدلائل الربوبية، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏على ذلك‏}‏ بمعنى‏:‏ مع ذلك، أي مع ذلك الكُنود هو عليم بأنه ربه مستحق للشكر والطاعة لا للكنود، فحرف ‏{‏على‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وآتى المال على حبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ و‏{‏يطعمون الطعام على حبه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏ وقول الحارث بن حلزة‏:‏

فبقِينَا على الشَّناءَةِ تنْمِ *** نَا حصون وعِرة قعساء

والجار والمجرور في موضع الحال وذلك زيادة في التعجيب من كنود الإِنسان‏.‏

وقال ابن عباس والحسن وسفيان‏:‏ ضمير ‏{‏وإنَّه‏}‏ عائد إلى «ربه»، أي وأن الله على ذلك لشهيد، والمقصود أن الله يعلم ذلك في نفس الإِنسان، وهذا تعريض بالتحذير من الحساب عليه‏.‏ وهذا يسوغه أن الضمير عائد إلى أقرب مذكور ونقل عن مجاهد وقتادة كلا الوجهين فلعلهما رأيا جواز المحملين وهو أولى‏.‏

وتقديم ‏{‏على ذلك‏}‏ على «شهيد» للاهتمام والتعجيب ومراعاة الفاصلة‏.‏

والشديد‏:‏ البخيل‏.‏ قال أبو ذؤيب راثياً‏:‏

حَذَرْنَاه بأثواب في قَعر هوة *** شَديدٍ على ما ضُمَّ في اللحد جُولُها

والجول بالفتح والضَّم‏:‏ التراب، كما يقال للبخيل المتشدد أيضاً قال طرفة‏:‏

عقيلة مال الفاحش المتشدد ***

واللام في ‏{‏لحب الخير‏}‏ لام التعليل، والخير‏:‏ المال قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ترك خيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ إن في خُلق الإِنسان الشُّحّ لأجل حبه المال، أي الازدياد منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وتقديم ‏{‏لحب الخير‏}‏ على متعلَّقه للاهتمام بغرابة هذا المتعلق ولمراعاة الفاصلة، وتقديمه على عامله المقترن بلام الابتداء، وهي من ذوات الصدر لأنه مجرور كما علمت في قوله‏:‏ ‏{‏لربه لكنود‏}‏‏.‏

وحب المال يبعث على منع المعروف، وكان العرب يعيِّرون بالبخل وهم مع ذلك يبْخَلون في الجاهلية بمواساة الفقراء والضعفاء ويأكلون أموال اليتامى ولكنهم يسرفون في الإِنفاق في مظان السمعة ومجالس الشرب وفي الميسر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جماً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 18 20‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

فُرع على الإِخبار بكنود الإِنسان وشحه استفهام إنكاري عن عدم علم الإِنسان بوقت بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور فإنه أمر عجيب كيف يغفل عنه الإِنسان‏.‏ وهمزة الاستفهام قدمت على فاء التفريع لأن الاستفهام صدر الكلام‏.‏

وانتصب ‏{‏إذا‏}‏ على الظرفية لمفعول ‏{‏يعلم‏}‏ المحذوف اقتصاراً، لِيَذْهَبَ السامع في تقديره كلَّ مذهب ممكن قصداً للتهويل‏.‏

والمعنى‏:‏ ألا يعلم العذابَ جزاءً له على ما في كنوده وبخله من جناية متفاوتة المقدار إلى حد إيجاب الخلود في النار‏.‏

وحُذف مفعولا ‏{‏يعلم‏}‏ ولا دليل في اللفظ على تعيين تقديرهما فيوكل إلى السامع تقدير ما يقتضيه المقام من الوعيد والتهويل ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف الاقتصاري، وحذف كلا المفعولين اقتصاراً جائز عند جمهور النحاة وهو التحقيق وإن كان سيبويه يمنعه‏.‏

و ‏{‏بُعثِر‏}‏‏:‏ معناه قُلب من سفل إلى علوّ، والمراد به إحياء ما في القبور من الأموات الكاملة الأجساد أو أجزائها، وتقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا القبور بعثرت‏}‏ في سورة الانفطار ‏(‏4‏)‏‏.‏

و ‏{‏حُصِّل‏}‏‏:‏ جُمع وأُحصي‏.‏ و‏{‏ما في الصدور‏}‏‏:‏ هو ما في النفوس من ضمائر وأخلاق، أي جُمع عَدُّه والحسابُ عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإِنكار، أي كان شأنهم أن يعلموا اطلاع الله عليهم إذا بعثر ما في القبور، وأن يذكروه لأن وراءهم الحساب المدقق، وتفيد هذه الجملة مفاد التذييل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لخبير‏}‏، أي عليم‏.‏

والخبير‏:‏ مكنَى به عن المجازى بالعقاب والثواب، بقرينة تقييده بيومئذ لأن علم الله بهم حاصل من وقت الحياة الدنيا، وأما الذي يحصل من علمه بهم يوم بَعثرة القبور، فهو العلم الذي يترتب عليه الجزاء‏.‏

وتقديم ‏{‏بهم‏}‏ على عامله وهو ‏{‏لخبير‏}‏ للاهتمام به ليعلموا أنهم المقصود بذلك‏.‏ وتقديم المجرور على العامل المقترن بلام الابتداء مع أن لها الصدر سائغ لتوسعهم في المجرورات والظرف كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏لربه لكنود‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏على ذلك لشهيد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لحب الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقد علمتَ أن ابن هشام ينازع في وجوب صدارة لام الابتداء التي في خبر ‏{‏إنَّ‏}‏‏.‏

سورة القارعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الْقَارِعَةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الافتتاح بلفظ ‏{‏القارعة‏}‏ افتتاح مهول، وفيه تشويق إلى معرفة ما سيخبر به‏.‏

وهو مرفوع إما على الابتداء و‏{‏ما القارعة‏}‏ خبره ويكون هناك منتهى الآية‏.‏

فالمعنى‏:‏ القارعة شيء عظيم هي‏.‏ وهذا يجري على أن الآية الأولى تنتهى بقوله‏:‏ ‏{‏ما القارعة‏}‏‏.‏

وإمّا أن تكون ‏{‏القارعة‏}‏ الأولُ مستقلاً بنفسه، وعُدّ آية عند أهل الكوفة فيقدر خبرٌ عنه محذوف نحو‏:‏ القارعة قريبة، أو يقدر فعل محذوف نحو أتتْ القارعة، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ما القارعة‏}‏ استئنافاً للتهويل، وجُعل آية ثانية عند أهل الكوفة، وعليه فالسورة مسمطة من ثلاث فواصل في أولها وثلاث في آخرها وفاصلتين وسطها‏.‏

وإعادة لفظ ‏{‏القارعة‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار عدل عَنْ أن يقال‏:‏ القارعة ماهِيهْ، لما في لفظ القارعة من التهويل والترويع، وإعادة لفظ المبتدأ أغنت عن الضمير الرابط بين المبتدأ وجملة الخبر‏.‏

والقارعة‏:‏ وصف من القرع وهو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت‏.‏ وأطلق القرع مجازاً على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثُّر خوف أو اتعاظ، يقال‏:‏ قَرع فُلاناً، أي زجره وعَنَّفه بصوت غضب‏.‏ وفي المقامة الأولى‏:‏ «ويقرع الأسماع بزواجر وعظه»‏.‏

وأطلقت ‏{‏القارعة‏}‏ على الحدث العظيم وإن لم يكن من الأصوات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ وقيل‏:‏ تقول العرب‏:‏ قرعت القوم قارعة، إذا نزل بهم أمر فظيع ولم أقف عليه فيما رأيت من كلام العرب قبل القرآن‏.‏

وتأنيث ‏{‏القارعة‏}‏ لتأويلها بالحادثة أو الكائنة‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ استفهامية، والاستفهام مستعمل في التهويل على طريقة المجاز المرسل المركب لأن هول الشيء يستلزم تساؤل الناس عنه‏.‏

ف ‏{‏القارعة‏}‏ هنا مراد بها حادثة عظيمة‏.‏ وجمهور المفسرين على أن هذه الحادثة هي الحشر فجعلوا القارعة من أسماء يوم الحشر مثل القيامة، وقيل‏:‏ أريد بها صيحة النفخة في الصُّور، وعن الضحاك‏:‏ القارعة النار ذات الزفير، كأنه يريد أنها اسم جهنم‏.‏

وهذا التركيب نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1 3‏]‏ وقد تقدم‏.‏

ومعنى ‏{‏وما أدراك ما القارعة‏}‏ زيادة تهويل أمر القارعة و‏{‏ما‏}‏ استفهامية صادقة على شخص، والتقدير‏:‏ وأي شخص أدراك، وهو مستعمل في تعظيم حقيقتها وَهَوْلها لأن هول الأمر يستلزم البحث عن تعرفة‏.‏ وأدراك‏:‏ بمعنى أعلمك‏.‏

و ‏{‏ما القارعة‏}‏ استفهام آخر مستعمل في حقيقته، أي ما أدراك جواب هذا الاستفهام‏.‏ وسدّ الاستفهام مَسدَّ مفعولي ‏{‏أدراك‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما القارعة‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ما القارعة‏}‏‏.‏

والخطاب في ‏{‏أدراك‏}‏ لغير معين، أي وما أدراك أيها السامع‏.‏

وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1 3‏]‏ وتقدم بعضه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين‏}‏ في سورة الانفطار ‏(‏17‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ‏(‏4‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏يوم‏}‏ مفعول فيه منصوب بفعل مضمر دل عليه وصف القارعة لأنه في تقدير‏:‏ تَقْرع، أو دل عليه الكلام كله فيقدر‏:‏ تكون، أو تحصل، يوم يكون الناس كالفراش‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يوم يكون الناس‏}‏ مع متعلقها المحذوف بيان للإِبهامين اللذين في قوله‏:‏ ‏{‏ما القارعة‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما القارعة‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وليس قوله‏:‏ ‏{‏يوم يكون الناس‏}‏ خبراً عن ‏{‏القارعة‏}‏ إذ ليس سياق الكلام لتعيين يوم وقوع القارعة‏.‏

والمقصود بهذا التوقيت زيادة التهويل بما أضيف إليه ‏{‏يوم‏}‏ من الجملتين المفيدتين أحوالاً هائلة، إلا أن شأن التوقيت أن يكون بزمان معلوم، وإذ قد كان هذا الحال الموقت بزمانه غير معلوم مَداه‏.‏ كان التوقيت لهُ إطماعاً في تعيين وقت حصوله إذ كانوا يَسألون متى هذا الوعد، ثم توقيته بما هو مجهول لهم إبهاماً آخر للتهويل والتحذير من مفاجأته، وأبرز في صورة التوقيت للتشويق إلى البحث عن تقديره، فإذا باء الباحث بالعجز عن أخذ بحيطة الاستعداد لحلوله بما ينجيه من مصائبه التي قرَعتْ به الأسماع في آي كثيرة‏.‏

فحصل في هذه الآية تهويل شديد بثمانية طرق‏:‏ وهي الابتداء باسم القارعة، المؤذن بأمر عظيم، والاستفهام المستعمل في التهويل، والإِظهار في مقام الإِضمار أول مرة، والاستفهامُ عما ينْبئ بكنه القارعة، وتوجيهُ الخطاب إلى غير معين، والإِظهار في مقام الإِضمار ثاني مرة، والتوقيتُ بزمان مجهوللٍ حصوله وتعريف ذلك الوقت بأحوال مهولة‏.‏

والفَراش‏:‏ فرخ الجَراد حين يخرُج من بيضه من الأرض يَركب بعضه بعضاً وهو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليْلاً وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية هنا به‏.‏

و ‏{‏المبثوث‏}‏‏:‏ المتفرق على وجه الأرض‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وتكون الجبال كالعهن المنفوش‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏يوم يكون الناس كالفراش المبثوث‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏فأما من ثقلت موازينه‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 6‏]‏ الخ‏.‏ وهو إدماج لزيادة التهويل‏.‏

ووجه الشبه كثرة الاكتظاظ على أرض المحشر‏.‏

والعِهن‏:‏ الصوف، وقيل‏:‏ يختص بالمصبوغ الأحمر، أو ذي الألوان، كما في قول زهير‏:‏

كأنَّ فُتات العِهن في كل منزلٍ *** نَزَلْنَ به حبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِ

لأن الجبال مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والمنفوش‏:‏ المفرق بعض أجزائه عن بعض ليغزل أو تحشى به الحشايا، ووجه الشبه تفرق الأجزاء لأن الجبال تندكّ بالزلازل ونحوها فتتفرق أجزاءً‏.‏

وإعادة كلمة ‏{‏تكون‏}‏ مع حرف العطف للإِشارة إلى اختلاف الكونين فإن أولهما كونُ إيجاد، والثاني كون اضمحلال، وكلاهما علامة على زوال عالم وظهور عالم آخر‏.‏

وتقدم قوله تعالى ‏{‏وتكون الجبال كالعهن‏}‏ في سورة المعارج ‏(‏9‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

تفصيل لما في قوله‏:‏ ‏{‏يوم يكون الناس كالفراش المبثوث‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 4‏]‏ من إجمال حال الناس حينئذ، فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء فلذلك كان تفصيله بحالين‏:‏ حال حَسَن وحال فظيع‏.‏

وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضى من الله تعالى لكثرة حسناته، لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتنائها، وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوهِ، وبضد ذلك يقولون‏:‏ فلان لا يقام له وزن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏، وقال النابغة‏:‏

وميزانه في سُورة المجد مَاتِع ***

أي راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في الآية بذكر ما يُثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح‏.‏

وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيراً في القرآن، قال ابن العربي في «العواصم»‏:‏ لم يرد حديث صحيح في الميزان‏.‏ والمقصودُ عدم فوات شيء من الأعمال، والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك‏.‏

والعيشة‏:‏ اسم مصدر العَيش كالخِيفة اسم للخوف‏.‏ أي في حياة‏.‏

ووصف الحياة ب ‏{‏راضية‏}‏ مجاز عقلي لأن الراضي صاحبها راض بها فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأمه هاوية‏}‏ إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها‏.‏ وهاوية‏:‏ هالكة، والكلام تمثيل لحال من خفّت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر لشدة محبتها ابنها فهي أشد سروراً بسروره وأشد حزناً بما يحزنه‏.‏ صلّى أعرابي وراءَ إمام فقرأ الإِمام‏:‏ ‏{‏واتخذ اللَّه إبراهيم خليلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏ فقال الأعرابي‏:‏ «لقد قَرَّت عينُ أمِّ إبراهيم» ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همَّام الشيباني‏:‏

يا لهفَ زيّابة للحارث الصا *** بح فالغَانم فالآيب

ويقولون في الشر‏:‏ هَوتْ أمه، أي أصابه ما تَهلك به أمه، وهذا كقولهم‏:‏ ثكلته أمه، في الدعاء، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب بن سعد الغَنوي في رثاء أخيه أبي المِغوار‏:‏

هَوَتْ أمُّه ما يَبعث الصبحُ غادياً *** وماذا يَرُدُّ الليلُ حينَ يؤوب

أي ماذا يبعث الصبحُ منه غادياً وما يردُّ الليلُ حينَ يؤوب غانماً، وحذف منه في الموضعين اعتماداً على قرينة رفع الصبح والليل وذِكر‏:‏ غادياً ويؤوب و‏(‏مِن‏)‏ المقدَّرة تجريدية فالكلام على التجريد مثل‏:‏ لقيت منه أسداً‏.‏

فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحالة المشبهة بحال الهلاك، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب، كما تضرب الأمثال السائرة‏.‏

ويجوز أن يكون «أمه» مستعاراً لمقره ومآله لأنه يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه‏.‏

و ‏{‏هاوية‏}‏ المكان المنخفض بين الجبلين الذي إذا سقط فيه إنسان أو دابة هلك، يقال‏:‏ سقط في الهاوية‏.‏

وأريد بها جهنم، وقيل‏:‏ هي اسم لجهنم، أي فمأواه جهنم‏.‏

ويجوز أن يكون «أمه» على حذف مضاف، أي أم رأسه، وهي أعلى الدماغ، و‏{‏هاوية‏}‏ ساقطة من قولهم سقط على أم رأسه، أي هلك‏.‏

‏{‏وما أدراك ما هيه‏}‏‏:‏ تهويل كما تقدم آنفاً‏.‏

وضمير ‏{‏هِيه‏}‏ عائد إلى ‏{‏هاوية‏}‏، فعلى الوجه الأول يكون في الضمير استخدام، إذ معاد الضمير وصف هالكة، والمرادُ منه اسم جهنم كما في قول معاوية بن مالك الملقَّب معوِّذَ الحُكماء‏:‏

إذا نزل السماءُ بأرض قوم *** رَعْينَاه وإنْ كانوا غضاباً

وعلى الوجه الثاني يعود الضمير إلى ‏{‏هاوية‏}‏ وفسرت بأنها قعر جهنم‏.‏

وعلى الوجه الثالث يكون في ‏{‏هِيه‏}‏ استخدام أيضاً كالوجه الأول‏.‏

والهاء التي لحقت ياء ‏(‏هِي‏)‏ هاءُ السكت، وهي هاء تُجلب لأجل تخفيف اللفظ عند الوقف عليه، فمنه تخفيف واجب تجلب له هاء السكت لزوماً، وبعضه حسن، وليس بلازم وذلك في كل اسم أو حرف بآخره حركة بناء دائمة مثل‏:‏ هو، وهي، وكيف، وثم، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كِتابيه‏}‏ في سورة الحاقة ‏(‏19‏)‏‏.‏

وجمهور القراء أثبتوا النطق بهذه الهاء في حالتي الوقف والوصل، وقرأ حمزة وخلف بإثبات الهاء في الوقف وحذفها في الوصل‏.‏

وجملة‏:‏ نار حامية‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما هيه‏}‏، والمعنى‏:‏ هي نار حامية‏.‏ وهذا من حذف المسند إليه الذي اتّبع في حذفه استعمال أهل اللغة‏.‏

ووصف ‏{‏نار‏}‏ ب ‏{‏حامية‏}‏ من قبيل التوكيد اللفظي لأن النار لا تخلو عن الحَمْي فوصفها به وصف بما هوَ من معنى لفظ ‏{‏نار‏}‏ فكانَ كذكر المرادف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نار اللَّه الموقدة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

سورة التكاثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏ألهاكم‏}‏ أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغالُ به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمرٍ مهم‏.‏

و ‏{‏التكاثر‏}‏‏:‏ تفاعل في الكثْر أي التباري في الإِكثار من شيء مرغوب في كثرته‏.‏ فمنه تكاثر في الأموال، ومنه تكاثر في العَدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم‏.‏ وقد فسرت الآية بهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقال الأعشى‏:‏

ولستَ بالأكْثر منهم حَصًى *** وإنما العِزة للكَاثر

روى مسلم عن عبد الله بن الشِّخِّير قال‏:‏ «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ قال‏:‏ يقول ابنُ آدم مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنَيْت أو لَبست فَأَبْلَيْت أو تصدقت فأمضَيْت» فهذا جارٍ مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمله الآية‏.‏

والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 6‏]‏ إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خُلق المسلمين يومئذ‏.‏

والمراد بالخطاب‏:‏ سادتُهم وأهلُ الثراء منهم لقوله‏:‏ ‏{‏ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 8‏]‏، ولأن سادة المشركين هم الذين آثاروا ما هم فيه من النعمة على التهمّم بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتصدَّوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإِصغاء له‏.‏ فلم يُذكَر المُلْهَى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه، والإِنصاف بتصديقه‏.‏ وهذا الإِلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي‏.‏

وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يُلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير، قال تعالى يخاطب المؤمنين‏:‏ ‏{‏اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 20‏]‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى زرتم المقابر‏}‏ غاية، فيحتمل أن يكون غاية لفعل ‏{‏ألهاكم‏}‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 91‏]‏، أي دَام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمرّ بكم طولَ حياتكم، فالغاية مستعملة في الإِحاطة بأزمان المغيَّا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها‏.‏

ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها، أي قبورَ المقابر‏.‏ وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولاً غير مستمر، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضاً بهم بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها‏.‏

والتعبير بالفعل الماضي في ‏{‏زرتم‏}‏ لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل‏:‏

‏{‏أتى أمرُ اللَّه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر بهِ الدالِّ عليه التكاثُر، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها‏.‏ وهذا يجري على ما رَوَى مقاتل والكلبي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم، كما تقدم في سبب نزولها آنفاً، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي، أي زرتم المقابر لتَعُدُّوا القبور، والعرب يكنّون بالقبر عن صاحبه قال النابغة‏:‏

لَئِنْ كان للقَبْرين قَبْرٍ بجِلَّقٍ *** وقَبر بصيداءَ الذي عند حَارِب

وقال عصام بن عُبيد الزّمَّاني، أو همّام الرَّقَاشي‏:‏

لو عُدَّ قَبْرٌ وقبرٌ كُنتُ أقربَهم *** قبراً وأبْعَدَهم من مَنزِل الذَّام

أي كنتُ أقربهم منكَ قبراً، أي صاحبَ قبر‏.‏

و ‏{‏المقابر‏}‏‏:‏ جمع مقبَرة بفتح الموحدة وبضمها‏.‏ والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة‏.‏

والتوبيخ الذي استُعمل فيه الخبر أُتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت، وبحرف الزجر والإِبطال بقوله‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون‏}‏ فأفاد ‏{‏كلا‏}‏ زجراً وإبطالاً لإِنهاء التكاثر‏.‏

و ‏{‏سوف‏}‏ لتحقيق حصول العلم‏.‏ وحدف مفعول ‏{‏تعلمون‏}‏ لظهور أن المراد‏:‏ تعلمون سوء مَغَبَّة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإِسلام‏.‏

وأكد الزجر والوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ فعطف عطفاً لفظيّاً بحرف التراخي أيضاً للإِشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول لكن عطفه بحرف ‏{‏ثم‏}‏ اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ توكيد لفظي لجملة‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون‏}‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون‏}‏ ما ينزل بكم من عذاب في القبر‏:‏ ‏{‏ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ عند البعث أن ما وعدتم به صِدق، أي تُجعل كلَّ جملة مراداً بها تهديد بشيء خاص‏.‏ وهذا من مُسْتَتْبَعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكلِّ من فِعلي ‏{‏تعلمون‏}‏، وليس تكرير الجملة بمقتض ذلك في أصل الكلام‏.‏ ومفاد التكرير حاصل على كل حال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أعيد الزجر ثالِثَ مرةٍ زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم على التكاثر مما هم يتكاثرون فيه ولهوهم به عن النظر في دعوة الحق والتوحيد‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏تعلمون‏}‏ للوجه الذي تقدم في ‏{‏كلا سوف تعلمون‏}‏ وجواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لو تعلمون علم اليقين‏}‏ تهويل وإزعاج لأن حذف جواب ‏{‏لو‏}‏ يجعل النفوس تذهب في تقديره كلَّ مذهب مُمكن‏.‏ والمعنى‏:‏ لو تعلمون علم اليقين لتبيَّن لكم حالٌ مفظع عظيم، وهي بيان لما في ‏{‏كلا‏}‏ من الزجر‏.‏

والمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏لو تعلمون‏}‏ مراد به زمن الحال‏.‏ أي لو علمتم الآن علم اليقين لعلمتم أمراً عظيماً‏.‏ ولفعل الشرط مع ‏{‏لو‏}‏ أحوال كثيرة واعتبارات، فقد يقع بلفظ الماضي وقد يقع بلفظ المضارع وفي كليهما قد يكون استعماله في أصل معناه‏.‏ وقد يكون منزّلاً منزلةَ غير معناه، وهو هنا مستعمل في معناه من الحال بدون تنزيل ولا تأويل‏.‏

وإضافة ‏{‏علم‏}‏ إلى ‏{‏اليقين‏}‏ إضافةٌ بيانية فإن اليقين علم، أي لو علمتم علماً مطابقاً للواقع لبان لكم شنيع ما أنتم فيه ولكن علمهم بأحوالهم جهل مركَّب من أوهام وتخيلات، وفي هذا نداء عليهم بالتقصير في اكتساب العلم الصحيح‏.‏ وهذا خطاب للمشركين الذين لا يؤمنون بالجزاء وليس خطاباً للمسلمين لأن المسلمين يعلمون ذلك علم اليقين‏.‏ واعلم أنَّ هذا المركب هو ‏{‏علم اليقين‏}‏ نقل في الاصطلاح العلمي فصار لقباً لحالة من مدركات العقل وقد تقدم بيان ذلك عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لحق اليقين‏}‏ في سورة الحاقة ‏(‏51‏)‏ فارجع إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن ما سبقه من الزجر والردع المكرر ومن الوعيد المؤكّد على إجماله يثير في نفس السامع سؤالاً عما يُترقب من هذا الزجر والوعيد فكان قوله‏:‏ ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ جواباً عما يجيش في نفس السامع‏.‏

وليس قولُه‏:‏ ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ جواب ‏(‏لَوْ‏)‏ على معنى‏:‏ لو تعلمون علم اليقين لكنتم كمَن ترون الجحيم، أي لتروُنَّها بقلوبكم، لأن نظم الكلام صيغة قَسم بدليل قَرْنه بنون التوكيد، فليست هذه اللام لامَ جواب ‏(‏لو‏)‏ لأن جواب ‏(‏لو‏)‏ ممْتَنِعُ الوقوع فلا تقترن به نون التوكيد‏.‏

والإِخبار عن رؤيتهم الجحيم كناية عن الوقوع فيها، فإن الوقوع في الشيء يستلزم رؤيتَه فيكنى بالرؤية عن الحضور كقول جَعْفر بن عُلْبة الحارثي‏:‏

لا يَكشف الغَمَّاء إلا ابنُ حرة *** يَرى غمراتتِ الموْتتِ ثُمَّ يَزُورُها

وأُكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ثم لترونها عين اليقين‏}‏ قصداً لتحقيق الوعيد بمعناه الكنائي‏.‏ وقد عطف هذا التأكيد ب ‏{‏ثم‏}‏ التي هي للتراخي الرتبي على نحو ما قررنَاهُ آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 4‏]‏، وليس هنالك رؤيتان تقع إحداهما بعد الأخرى بمُهلة‏.‏

و ‏{‏عينَ اليقين‏}‏‏:‏ اليقين الذي لا يشوبه تردد‏.‏ فلفظ عين مجاز عن حقيقة الشيء الخالصة غير الناقصة ولا المشابهة‏.‏

وإضافة ‏{‏عين‏}‏ إلى ‏{‏اليقين‏}‏ بيانية كإضافة ‏{‏حق‏}‏ إلى ‏{‏اليقين‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو حق اليقين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏عين‏}‏ على النيابة عن المفعول المطلق لأنه في المعنى صفة لمصدر محذوف، والتقدير‏.‏ ثم لترونها رؤيةَ عين اليقين‏.‏

وقرأه الجمهور‏:‏ ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ بفتح المثناة الفوقية، وقرأه ابن عامر والكسائي بضم المثناة من ‏(‏أراه‏)‏‏.‏

وأمَّا ‏{‏لترونها‏}‏ فلم يختلف القراء في قراءته بفتح المثناة‏.‏

وأشار في «الكشاف» إلى أن هذه الآيات المفتتحة بقوله‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 3‏]‏ والمنتهية بقوله‏:‏ ‏{‏عين اليقين‏}‏، اشتملت على وجوه من تقوية الإِنذار والزجر، فافتتحت بحرف الردع والتنبيه، وجيء بعده بحرف ‏{‏ثم‏}‏ الدال على أن الإِنذار الثاني أبلغ من الأول‏.‏ وكرر حرف الردع والتنبيه، وحُذف جواب ‏{‏لو تعلمون‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 5‏]‏ لما في حذفه من مبالغة التهويل، وأُتي بلام القسم لتوكيد الوعيد‏.‏ وأكد هذا القسم بقسم آخر، فهذه ستة وجوه‏.‏

وأقول زيادة على ذلك‏:‏ إن في قوله‏:‏ ‏{‏عين اليقين‏}‏ تأكيدين للرؤية بأنها يقين وأن اليقين حقيقة‏.‏ والقول في إضافة ‏{‏عين اليقين‏}‏ كالقول في إضافة ‏{‏علم اليقين‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 5‏]‏ المذكور آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر عن النظر في دعوة الإِسلام من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم، بتهديدٍ وتخويف من مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا ولم يشكروا الله عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم‏}‏، أي عن النعيم الذي خولتموه في الدنيا فلم تشكروا الله عليه وكان به بَطركُم‏.‏

وعطف هذا الكلام بحرف ‏{‏ثم‏}‏ الدال على التراخي الرتبي في عطفه الجُملَ من أجل أن الحساب على النعيم الذي هو نعمة من الله أشدّ عليهم لأنهم ما كانوا يترقبونه، لأن تلبسهم بالإِشراك وهُم في نعيم أشد كفراناً للذي أنعم عليهم‏.‏

و ‏{‏النعيم‏}‏‏:‏ اسم لما يلذّ لإِنسان مما ليس ملازماً له، فالصحة وسلامة الحواس وسلامة الإِدراك والنوم واليقظة ليست من النعيم، وشرب الماء وأكل الطعام والتلذّذ بالمسموعات وبما فيه فخر وبرؤية المحاسن، تعد من النعيم‏.‏

والنعيم أخص من النعمة بكسر النون ومرادف للنَّعمة بفتح النون‏.‏

وتقدم النعيم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها نعيم مقيم‏}‏ في سورة براءة ‏(‏21‏)‏‏.‏

والخطاب موجه إلى المشركين على نسق الخطابات السابقة‏.‏

والجملة المضاف إليها ‏(‏إذ‏)‏ من قوله‏:‏ يومئذ‏}‏ محذوفة دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 6‏]‏ أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب‏.‏

وهذا السؤال عن النعيم الموجه إلى المشركين هو غير السؤال الذي يُسأله كل منعَم عليه فيما صرف فيه النعمة، فإن النعمة لما لم تكن خاصة بالمشركين خلافاً للتكاثر كان السؤال عنها حقيقاً بكل منعَم عليه وإن اختلفت أحوال الجزاء المترتب على هذا السؤال‏.‏

ويؤيده ما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقاما معه فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته‏.‏ إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال‏:‏ الحمد لله ما أحد اليوم أكرمُ أضيافاً مني فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتَمر ورُطب وأخذ المدية فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لتُسألنَّ عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة ‏"‏ الحديث‏.‏ فهذا سؤال عن النعيم ثبت بالسنة وهو غير الذي جاء في هذه الآية‏.‏ والأنصاري هو أبو الهيثم بن التَّيِّهان واسمه مالك‏.‏

ومعنى الحديث‏:‏ لتُسألن عن شكر تلك النعمة، أراد تذكيرهم بالشكر في كل نعمة‏.‏ وسؤال المؤمنين سؤال لترتيب الثواب على الشكر أو لأجل المؤاخذة بالنعيم الحرام‏.‏

وذكر القرطبي عن الحسن‏:‏ لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار، وروي «أن أبا بكر لما نَزَلَتْ هذه الآية قال‏:‏ يا رسول الله أرأيتَ أكلة أكلتُها معك في بيت أبي الهيثم بن التيِّهان من خبز شعير ولحم وبُسر قد ذَنَّب وماء عذب، أنخاف أن يكون هذا من النعيم الذي نُسأل عنه‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ ذلك للكُفار ‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وهل يُجازَى إلا الكفور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال القشيري‏:‏ والجمع بين الأخبار أن الكلَّ يسألون، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر‏.‏

والجملة المضاف إليها ‏(‏إذ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ محذوفة دلّ عليها قوله‏:‏ ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 6‏]‏ أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب‏.‏